أزمة خفيّة في إيران: حين تُسجَن الأمهات المتعلمات بسبب الديون!

تكشف معطيات حديثة من داخل إيران عن وجهٍ آخر للأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد، وجهٍ لا يرتبط بالجرائم التقليدية أو العنف، بل بواقع أشد قسوة: سجن نساء متعلمات وأمهات بسبب ديون مالية أو مخالفات غير متعمدة. هذه الظاهرة لا تعكس فقط ضائقة اقتصادية، بل تكشف فشلاً بنيوياً عميقاً في منظومة العدالة والرعاية الاجتماعية، وتُظهر كيف تحوّلت معاناة النساء إلى مرآة صارخة لاختلالات النظام الاقتصادي والقانوني.
بحسب تقرير نشرته صحيفة «آرمان امروز» الإيرانية، فإن الغالبية الساحقة من النساء السجينات لا يقبعن خلف القضبان بسبب جرائم جنائية خطرة، بل نتيجة عجزهن عن سداد ديون، أو بسبب كفالات مالية أو التزامات لم يقترفْنها بقصد إجرامي. ويعكس هذا الواقع اتساع دائرة الفقر المؤنث، وتآكل شبكات الحماية الاجتماعية، وغياب أي آليات حقيقية لدعم النساء في مواجهة الأزمات المعيشية.
وتتصدر طهران قائمة المحافظات من حيث عدد النساء السجينات في هذه القضايا بواقع 184 حالة، تليها فارس بـ96 حالة، ثم مازندران بـ85 حالة، في حين تكاد محافظة سيستان وبلوشستان تخلو من مثل هذه الحالات، وهو تفاوت يسلّط الضوء على تفاوت المعايير القضائية والاقتصادية بين الأقاليم.
اللافت أن الجهات الرسمية لم توضّح مصدر هذه الإحصاءات بدقة، كما لم يُعرف ما إذا كانت تشمل السجينات السياسيات أو الأيديولوجيات، الأمر الذي ينسجم مع السياسة التقليدية للسلطات الإيرانية في حجب الشفافية ورفض نشر بيانات دقيقة حول أوضاع السجون وحقوق الإنسان.

أمهات ومتخصصات… خلف القضبان
رئيس مؤسسة الدية التابعة للدولة، أسد الله جولائي، أقرّ بأن 73 في المئة من النساء السجينات هنّ أمهات، كثيرات منهن مسؤولات عن إعالة ثلاثة أبناء أو أكثر. والأكثر دلالة أن بين السجينات 24 امرأة يحملن شهادات دكتوراه، ما يؤكد أن هذه الأزمة لا تقتصر على الفئات الأكثر فقراً، بل تشمل أيضاً نساء من الطبقة المتعلمة والمهنية.
تتراوح أعمار السجينات بين 20 عاماً وقرابة التسعين. وفي محافظة فارس، تقبع امرأة منذ عام 2018 بسبب دين يبلغ 80 مليار ريال، وهو رقم يفوق قدرتها على السداد، ويجعل الإفراج عنها شبه مستحيل. وتعتبر الباحثة الاجتماعية فاطمة كبيرنژاد أن هذا الواقع دليل واضح على تحوّل الفقر في إيران إلى ظاهرة نسوية بامتياز، حيث أصبحت النساء الحلقة الأضعف في مواجهة الانهيارات الاقتصادية المتلاحقة.
وتصف كبيرنژاد سجن النساء بسبب العجز المالي، باعتباره “كارثة اجتماعية مزدوجة”، إذ لا تدمّر حياة المرأة فحسب، بل تهدد مصير أطفالها وتضعهم في دائرة الفقر والاضطراب النفسي وفقدان الاستقرار الأسري.
القضاء يعاقب الفقر بدل معالجته
إن اتساع الطيف العمري والتعليمي للنساء السجينات يعكس فشلاً عميقاً في مقاربة الدولة للديون غير المتعمدة. فبدلاً من توفير حلول قانونية وإنسانية، يُترك الفقراء ليواجهوا نظاماً قضائياً يعامل العجز المالي كجريمة، ويحوّل الضحايا إلى متهمين.
تتضافر عوامل عدة في إنتاج هذه الأزمة، من بينها ضعف شبكات الضمان الاجتماعي، وارتفاع تكاليف المعيشة، وانسداد فرص العمل أمام النساء، وسياسات اقتصادية قائمة على الإقصاء والتهميش وسوء الإدارة المزمن.
ولا يبدو أن هذه الأزمة هي مجرد خلل عابر، بل نتيجة تراكمات بنيوية وسياسات تمييزية حالت دون إصلاح حقيقي. فالمشهد الذي يتشكل اليوم يعكس دولة تعجز عن حماية مواطنيها، بل تُشرعن معاقبتهم حين يعجزون عن النجاة اقتصادياً.
صدى القضية خارج الحدود
هذا الواقع المتدهور لم يعد محصوراً داخل إيران، بل بات يحظى باهتمام متزايد في الأوساط الحقوقية والسياسية الدولية. ففي مؤتمر عقده إيرانيون في واشنطن منتصف نوفمبر الجاري، تم التطرق إلى أوضاع النساء والسجينات في إيران بوصفها أحد أبرز تجليات الأزمة الاجتماعية في البلاد، في سياق نقاش أوسع حول دور المرأة ومستقبل العدالة الاجتماعية تحت النظام القائم.
نحو كارثة اجتماعية مفتوحة
المشكلة لا تكمن فقط في الأرقام، بل في المسار الذي تسلكه الدولة الإيرانية، حيث تتحول المعاناة الاقتصادية إلى جناية، وتُجرَّم الحاجة بدل أن تعالَج. ومع غياب أي مؤشرات على إصلاحات جادة أو شفافية حقيقية، يلوح في الأفق خطر توسّع هذه الظاهرة وتعمّق آثارها على النسيج الاجتماعي.
إن استمرار سجن النساء بسبب الديون هو مؤشر خطير على انهيار منظومة العدالة الاجتماعية، وعلى تحوّل الفقر إلى وصمة جنائية. وبدون تغيير جذري في السياسات الاقتصادية والقضائية، ستبقى آلاف النساء عرضة لفقدان حريتهن، وتتواصل مأساة الأسر التي تدفع ثمن فشل دولة عاقبت الفقر بدل أن تحمي ضحاياه.

بقلم : نظام مير محمدي
كاتب حقوقي وخبير في الشأن الإيراني

