أخبار دوليةتقارير ميدانية

الاستحقاق المعلّق: صناديق تبحث عن أرض

من جديد، يقف لبنان على أعتاب استحقاق نيابي مرتقب، وكأن البلاد محكومة بتقليد أزلي: كلما اقترب موعد الاقتراع، اشتعلت أزمة وجودية تُهدّد بتأجيله. العدّ العكسي لانتخابات مايو/أيار 2026 لم يحلّ معه التفاؤل، بل أيقظ الصراعات القديمة حول أدق تفاصيل القانون، ليتحوّل المشهد السياسي إلى حلبة مفتوحة، لا تدور فيها المعركة حول البرامج والرؤى، بل حول كيفية رسم خريطة النفوذ عبر حبر الصناديق. الاستحقاق اليوم ليس مجرد سباق على المقاعد، بل هو امتحان لإرادة الباعثين على الديمقراطية المأزومة في وطن لا يملك ترف التأجيل.

​صراع المقاعد الستة ونبض المغتربين

​في قلب هذا الاشتباك المعتاد، يتربّع ملف اقتراع المغتربين كقنبلة موقوتة. فبينما تضغط قوى سيادية باتجاه إلغاء المقاعد الستة المخصصة لغير المقيمين، مطالبةً بدمجهم في الجسم الانتخابي الكامل (128 نائباً) لمنحهم ثقلاً أكبر وقدرة على إحداث تغيير جذري، تتمسك أطراف نافذة بالصيغة الحالية. هذا التمسك ليس تقنياً، بل هو دفاع صريح عن التوازنات الطائفية الراهنة التي يخشى البعض أن يزعزعها الصوت الوافد من الخارج. هذا الصوت قد لا يخضع للمناكفات المحلية ولا للولاءات المعهودة، مما يجعل المواجهة تكشف أن الخوف ليس من الاقتراع بحد ذاته، بل من نتائج اقتراع حرّ قد يقلب الطاولة على حافة الهاوية.

Photo 2025 11 03 15 26 43

​الشلل التشريعي وتضارب التصريحات

​انعكس هذا التنافر مباشرة على المسار التشريعي. فجلسات الحكومة الأخيرة، لم تكن سوى عروض مسرحية للتوتر، بلغت حد الانسحاب الوزاري احتجاجاً على طي ملف تعديل القانون دون نقاش جدي. الخطاب الرسمي، من جهته، يصرّ على أن الانتخابات ستُجرى في موعدها، ويُلقي بالمسؤولية الكاملة على المجلس النيابي لتعديل القانون أو تحمّل تبعات الجمود. لكن هذا الإلقاء للمسؤولية لا يغيّر شيئاً من واقع أن الاقتراحات عالقة في اللجان المشتركة، دون أي أفق لجلسة تشريعية قريبة. هذا الشلل المقنّع يرسّخ الشكوك: هل هناك إرادة حقيقية للتغيير أم أن الأمر برمته مجرد مناورة لتضييع الوقت والبحث عن ذريعة جاهزة عندما يحين الأجل؟

​لغز “الميغاسنتر” والبطاقة الممغنطة

​لم تتوقف الأزمة عند التجاذبات السياسية، بل امتدت لتلامس التفاصيل اللوجستية، التي تتحوّل في لبنان إلى أعذار ممتازة للتأجيل. فالملفات العالقة تشمل غموض آليات اقتراع غير المقيمين، والجدل حول البطاقة الممغنطة، ومصير فكرة الـميغاسنتر التي تهدف إلى تسهيل عملية الاقتراع. هذه الثغرات التقنية والقانونية، المتروكة عمداً دون حسم، تُشكّل فجوة يُمكن استخدامها في أي لحظة كرافعة لتبرير عدم جاهزية البلاد. فمنذ سنوات، ونحن ندور في حلقة مفرغة: كل تعديل قانوني يُقابل بعقبة لوجستية، وكل عقبة لوجستية تُعاد إلى خلاف سياسي، ما يُؤكد أن المعضلة ليست في الإجراءات بل في النوايا.​تبدو انتخابات 2026، وهي لا تزال في رحم الغيب، كاختبار مزدوج: هل سيتمكن اللبنانيون من تجاوز الانقسامات المزمنة؟ وهل ستثبت المؤسسات قدرتها على الصمود أمام تقاليد التأجيل والتعطيل؟ صناديق الاقتراع تبحث عن أرض صلبة تقف عليها، لكن الأرضية السياسية ما زالت هشة، محكومة بمنطق الاستئثار لا المشاركة. وفي النهاية، يبقى مصير هذا الاستحقاق معلّقاً بين إرادة التغيير الشعبية، وحسابات القوى التي لا ترى في الديمقراطية سوى أداة لتثبيت الأوضاع القائمة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى