ملفات خاصة بكل عدد

سارين على أبواب دمشق: شهادة الدم وواجب المحاسبة

 فجرٌ اختنق فيه الهواء بالحزن والغاز

في صباح 21 آب/أغسطس 2013 تعرضت الغوطة الشرقية  لفاجعة لا يشبهها أي كابوس. لم تكن أصوات المدافع أو القصف التقليدي هي ما حصد أرواح المئات في دقائق، بل غازٌ سامٌّ شفاف تسلّل إلى البيوت والنوافذ، وخنق الأطفال في أسِرّتهم قبل أن يتمكّنوا من الصراخ. أمهات احتضنّ أبناءهن حتى النفس الأخير، وآباء انهاروا عاجزين أمام اختناق عائلاتهم. كانت المجزرة أكثر من جريمة قتل جماعي؛ كانت جرحًا مفتوحًا في الضمير الإنساني كلّه، لأنها استخدمت السلاح الذي حظّره العالم منذ قرن باعتباره أداة لا يجوز أن تُرفع في وجه إنسان.

تاريخ سوريا الحرة الذي كتب بالدم والاختناق

 قبل 12 عاما وفي مثل هذا التاريخ استيقظ العالم على صور الأطفال والنساء والرجال وهم يختنقون بغاز السارين، ضحايا أبرياء قضوا في دقائق، فيما عجزت الإنسانية عن إنقاذهم أو ردع الجناة، لم تكن المشافي أو الخدمات الطبية في المدن والمناطق الخارجة عن سيطرة الأسد متوفرة بالشكل الطبيعي في هذه المناطق بسبب الحصار المفروض عليها من قبل جيش النظام والميليشيات المساندة له، حيث قدر إجمالي الضحايا وفقا للتقارير  بـ1,429 شهيداً، من بينهم 426 طفلًا؛ أي ما يقارب 1,003 بالغين. هذه كانت حصيلة أولية استندت إلى مصادر طبية وميدانية ومعلومات استخبارية مفتوحة ومصنّفة في تلك الآونة، بينما سجّلت منظّمة أطباء بلا حدود حوالي 3,600 مريض ظهرت عليهم أعراض تعرّض لعامل عصبي خلال أقل من ثلاث ساعات في ثلاثة مستشفيات فقط، مع 355 وفاة مُثبتة في تلك المرافق، وتشير المنظمة إلى أنّ العدد الحقيقي للمصابين قد يكون أكبر خارج مرافقها. 

Memory of the chemical massacre

هذه الأرقام تتسق مع شهادات وتقارير حقوقية مستقلّة رصدت مئات الجثامين وألوف المصابين بأعراض اختناق وتضيّق حدقة العين والتشنّجات، وأكّدتها تحليلات تقنية لمسارات الصواريخ واتجاهاتها إلى مواقع مدنية. 

من منظور حقوقي، لا مجال للتردّد: ما حدث في الغوطة جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. فهي لم تستهدف مواقع عسكرية، بل مدنيين عزّل، نصفهم تقريبًا من الأطفال والنساء. الهجوم الكيماوي انتهاك صارخ لكل القوانين والمعاهدات الدولية، من بروتوكول جنيف لعام 1925 إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية لعام 1993. والأخطر أنه جرى في ظل عجز المجتمع الدولي عن التحرك الفوري لمحاسبة الجناة، وهو ما فتح الباب لثقافة الإفلات من العقاب التي ما زالت تغذّي دوامة الجرائم في سوريا.

وهنا يجب التذكير بأن هذه المجزرة لم تكن مأساة سورية فقط، بل مأساة إنسانية عالمية تُذكّرنا بأن العدالة ليست ترفًا سياسيًا، بل حقّ أساسي للضحايا وواجب قانوني وأخلاقي على المجتمع الدولي. إن دماء الأطفال الذين لفظوا أنفاسهم في الغوطة تطالب اليوم قبل الغد بمحاسبة كل من خطّط وأمر ونفّذ، حتى لا يبقى القانون الدولي مجرّد نصوص فارغة، وحتى لا تتكرر الكارثة في أي مكان آخر.

مسارات قضائية تتقدّم… وتتعرّض للاختبار

يحظر اتفاق حظر الأسلحة الكيميائية وبروتوكول جنيف استخدام العوامل السامّة ضد البشر حظرًا مطلقًا. استخدام السارين سلاحًا ضد مناطق مدنية يُشكّل جريمة حرب وقد يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية بحكم طبيعته المنهجية وآثاره الواسعة. لهذا أصدر مجلس الأمن القرار 2118 (2013) الذي أدان هجوم 21 آب/أغسطس وطالب بتدمير الترسانة الكيماوية السورية تحت إشراف الأوبكوا، وشدّد على ضرورة المحاسبة. 

رغم تعطّل مسار الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، تحرّكت قضايا الولاية القضائية العالمية في أوروبا

فرنسا أصدرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 مذكرات توقيف دولية مرتبطة بهجمات 2013، قبل أن تشهد المذكرات لاحقًا جدلًا قضائيًا حول حصانة رؤساء الدول. هذه التطوّرات تؤكد أن ملف المجزرة باقٍ على أجندة القضاء الأوروبي. 

كما قُدّمت شكاوى جنائية في ألمانيا تخصّ هجوم الغوطة استنادًا لمبدأ الولاية العالمية، ضمن جهود أوسع لمحاسبة مرتكبي الجرائم في سوريا.

إن إحياء ذكرى الغوطة ليس فقط للتذكير بالفاجعة، بل للتأكيد أن دماء الضحايا أمانة في أعناق الأحياء. السكوت نسيان، والنسيان خيانة، المطلوب اليوم هو موقف حازم يعيد الاعتبار للضحايا ويمنع تكرار الجرائم. العدالة لا بد أن تطال المسؤولين المباشرين والقيادات العليا التي أمرت ونفذت، كي يعرف كل مجرم أن هناك حساباً ولو بعد حين.

مجزرة الغوطة ستبقى شاهداً أبدياً على وحشية بلا حدود، لكنها أيضاً تذكيراً بأن العدالة وإن تأخرت، لا بد أن تأتي. والحرية والكرامة التي خرج السوريون من أجلها لن تُخمدها الغازات السامة، ولن تطفئها الذاكرة الحية لشعب يطالب بالحق والعدالة.

زر الذهاب إلى الأعلى