تحت المجهر

فلسطين: الدولة المؤجلة وحق الإنسان في وطن

لم يكن التصويت الأخير في الأمم المتحدة على قرار إقامة الدولة الفلسطينية حدثاً دبلوماسياً عابراً. بل كان محطة مفصلية تُعيد تذكير العالم بأن هناك شعبًا حُرم لعقود من أبسط حقوقه الإنسانية: أن يعيش في وطن مستقل، آمن، ويصنع مستقبله بعيدًا عن الاحتلال والحصار والتهجير.

حين أيدت أغلبية ساحقة من الدول القرار، لم يكن الأمر مجرد تسجيل موقف سياسي أو دعم رمزي. لقد كان صدى لمعاناة ملايين الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون بين جدار الفصل، والبيوت المهدمة، والمخيمات الممتدة منذ النكبة. كل صوت “نعم” في قاعة الأمم المتحدة كان بمثابة اعتراف بإنسانيتهم قبل أن يكون اعترافًا بدولتهم.

القضية الفلسطينية لطالما جرى تقديمها في الخطاب السياسي كملف أمني أو نزاع جيوسياسي معقّد. لكن خلف الأرقام والإحصاءات هناك بشر، أطفال يكبرون بلا جنسية معترف بها، وأمهات يربين أبناءهن على حلم العودة أو الاستقرار، وأجيال كاملة لم تعرف طعم الأمان.

Photo ٢٠٢٥ ٠٩ ١٤ ١٢ ٥٥ ٢٠

القرار الأخير يكشف أن العالم، رغم انقساماته، لا يستطيع أن يتجاهل الجانب الإنساني لهذه القضية. فالحرمان من الحق في تقرير المصير ليس مجرد مسألة سيادية، بل هو انتهاك صارخ لجوهر حقوق الإنسان. الأمم المتحدة، بما تمثله من مظلة شرعية دولية، أعادت التأكيد على أن العدالة لا يمكن أن تبقى مؤجلة إلى ما لا نهاية.

الأصوات التي رفضت القرار قليلة، لكنها تعكس مواقف متكررة في التاريخ، حيث تنحاز بعض الدول إلى منطق القوة بدلاً من منطق العدالة. أما الامتناع والغياب، فهما يفضحان مأزقاً اخلاقياً: كيف يمكن لدولة أن ترفع شعار حقوق الإنسان في مكان ما، ثم تتردد في الاعتراف بحق شعب كامل في وطنه؟

هذه المفارقة الإنسانية هي ما يجعل القضية الفلسطينية معياراً عالمياً للمصداقية. فمن يقف مع فلسطين يقف مع قيم العدالة والحرية التي يُفترض أنها عالمية، لا انتقائية ولا خاضعة للحسابات السياسية الضيقة.

لا يمكن إنكار أن التصويت لن يغيّر الواقع على الأرض بين ليلة وضحاها. الاحتلال ما زال قائماً، والاستيطان يتوسع، والمعاناة الإنسانية مستمرة. لكن الأمل الذي يولّده هذا الاعتراف لا يقل أهمية عن الإنجاز السياسي ذاته. لأنه يعيد إلى الفلسطينيين إحساساً بأن العالم لم ينسَ قضيتهم، وأن تضحياتهم لم تذهب هباء.

الأطفال الذين يشاهدون صور التصويت على شاشات التلفاز ربما يدركون لأول مرة أن حلم الدولة ليس وهماً. النساء اللواتي ودّعن أبناءهن في مسيرات العودة أو تحت القصف يشعرن بأن العالم بدأ يسمع أصواتهن. والمجتمع الدولي، رغم بطء حركته، يبعث برسالة بأن زمن إنكار الحقوق يقترب من نهايته.

إن النقاش حول الدولة الفلسطينية ليس مجرد شأن سياسي بين حكومات. إنه مسألة إنسانية تخص كل فرد في هذا الكوكب يؤمن أن الكرامة والحرية ليستا امتيازًا، بل حقًا أصيلًا لكل إنسان. ما جرى في الأمم المتحدة هو تذكير بأن الإنسانية، مهما ضعفت أمام ضغوط السياسة، تعود لتفرض حضورها في النهاية.

إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو أكثر من قرار؛ إنه التزام أخلاقي جماعي تجاه شعب طُمس صوته طويلًا. وهو اختبار للمنظومة الدولية: هل تستطيع أن تحوّل هذا الاعتراف إلى خطوات عملية توقف التهجير، وتنهي الاحتلال، وتفتح الطريق أمام سلام عادل؟ أم يبقى القرار حبراً على ورق؟

في النهاية، لا يحتاج الفلسطينيون إلى مجاملات دبلوماسية بقدر ما يحتاجون إلى اعتراف حقيقي بأن لهم الحق في وطن، مثلهم مثل باقي شعوب الأرض. الدولة ليست رفاهية ولا منحة تُعطى وتُسحب، بل هي شرط أساسي لصون الكرامة الإنسانية.

التصويت الأخير لم يكن نهاية المطاف، بل بداية فصل جديد، عنوانه أن فلسطين ليست قضية من الماضي، بل قضية الحاضر والمستقبل. وما جرى في قاعة الأمم المتحدة هو رسالة واضحة: العالم قد يتأخر في نصرة المظلوم، لكنه في النهاية لا يستطيع أن يُنكر حقه في الحرية والكرامة.

زر الذهاب إلى الأعلى