الافتتاحية الفكرية للعددكلمة رئيس التحرير

من أجل السلم أم على حساب الدم ..؟.. قراءة في مصير حقوق السوريين

ــ حين يُقتل الشعب مرتين… بالرصاص ثم بالتقادم

منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية في مارس/آذار عام 2011، حمل ملايين السوريين أحلامهم بالحرية والكرامة إلى الشوارع، مطالبين بدولةٍ عادلةٍ تحترم الإنسان وتصون حقوقه المنصوص عليها في كل المواثيق والشرائع، لكنّ هذه المطالب السلمية قوبلت بعنف مفرط من قبل أجهزة الأمن، مما أدى إلى تحول البلاد إلى ساحة حرب مفتوحة، شاركت فيها أطراف داخلية وخارجية، وأُريق فيها من الدماء ما لا يمكن للعقل أن يستوعبه (قتل، تعذيب، تهجير، إخفاء قسري، اغتصاب، تدمير ممنهج للمدن والقرى…). كل ذلك كان جزءًا من سياسة معتمدة اتبعها نظام بشار الأسد وميليشياته بمساندة بعض الدول، وليست نتائج جانبية للحرب.

اليوم، وبعد أكثر من عقد ونيف من النزاع الدامي الذي عاشه الشعب السوري، تقف سوريا على مفترق طرق حاسم، ومع الحديث عن مرحلة “إعادة الإعمار” و”السلم الأهلي” و”العودة الآمنة”، كان من المنتظر أن تكون العدالة هي أولى خطوات أي مشروع حقيقي لإعادة بناء المجتمع والدولة، كان السوريون ينتظرون إنصافًا لتضحياتهم، ومحاسبةً للمجرمين، وحمايةً قانونيةً لحقوقهم وكرامتهم، لكنّ ما حدث هو النقيض تمامًا.

فقد خرجت الحكومة الجديدة، التي تشكلت لقيادة “مرحلة ما بعد النزاع”، بقرارات تصالحية وشعاراتٍ فضفاضة، وهذا أمر جيد ولكن ليس عبر تشريع الإفلات من العقاب، وذلك من خلال  إقدامها على خطواتٍ أدت إلى الإفراج عن عددٍ من أخطر مرتكبي الانتهاكات، بينهم من ظهَرَ في مقاطع مصورة توثق جرائم قتل جماعي وجرائم حرب، بحججٍ مثل أنّ “لم يُثبت عليهم الجرم” أو لأن الجريمة “سقطت بالتقادم”!

ــ كيف يمكن لدماء الآلاف أن تسقط بالتقادم؟

وهنا لا بد من طرح عددٍ من الأسئلة التي يتداولها السوريون فيما بينهم، وهي: كيف يُطلب من ذوي الضحايا أن يتعايشوا مع قاتلي أبنائهم وهم يسيرون أحرارًا في الشوارع؟ كيف نتحدث عن سلم أهلي وعدالة انتقالية فيما الجراح مفتوحة، والضحايا بلا إنصاف، والجناة يُكافَأون بالصمت والحرية؟

بهذه الأسئلة أبدأ هذا المقال، الذي أسعى من خلاله إلى تفكيك السلوكيات الخطيرة التي تتبعها الحكومة الجديدة في سوريا من حيث تجاهل العدالة، وتبييض الجرائم، وتمييع المحاسبة، وتشريع الإفلات من العقاب كما سأسلط الضوء على العواقب الكارثية التي قد تترتب على هذا النهج، وأثره المباشر على النسيج الاجتماعي السوري، واستقرار الدولة، وبنية القانون، ومستقبل سوريا ككل.

ــ العدالة الانتقالية المفقودة: حين تُكافأ الجريمة

العدالة الانتقالية ليست ترفًا قانونيًا، بل أحد أهم أعمدة بناء أي دولة خارجة من صراع دامٍ. تقوم على أربع ركائز أساسية: ((المساءلة، جبر الضرر، كشف الحقيقة، وضمان عدم التكرار)). 

ومع ذلك، اختارت الحكومة الجديدة في سوريا أن تفتح أبواب السجون أمام من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء، دون الاكتراث لمشاعر الملايين من ذوي الضحايا الذين قضوا على أيدي هؤلاء المجرمين، متذرعة بعدم كفاية الأدلة، رغم وجود مئات المقاطع المصورة والتوثيقات الحقوقية، وأبرزها ما نُشر عن مجزرة التضامن وعشرات المجازر المشابهة في معظم المحافظات والأحياء السورية التي ثارت ضد الأسد ومناصريه.

014804992

ــ فادي صقر ومجزرة التضامن: جريمة موثقة… بلا عقاب

في عام 2022، كشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية بالتعاون مع “التحقيقات المفتوحة” — والذي كنت أحد المشاركين فيه — عن مجزرةٍ بشعةٍ جرت في حيّ التضامن بدمشق ارتكبها عناصر من شعبة المخابرات العسكرية، أبرزهم أمجد يوسف الذي ظهر في فيديو يوثق إعدام أكثر من أربعين مدنيًا، رُبطت أعينهم وأيديهم، ثم دُفعوا إلى حفرةٍ لِيُقتلوا برصاص مباشر، وتُحرق جثثهم فوق بعضها. كما أن فادي صقر، قائد ميليشيا ما يسمى “الدفاع الوطني” في جنوب دمشق، كان يصدر الأوامر بشكل مباشر لارتكاب انتهاكات بحق أبناء المنطقة والمناطق المحيطة، إلى جانب أبو منتجب وعدد آخر من الشبيحة.

هذا الفيديو وغيره من التوثيقات يعد دليلاً جنائيًا قاطعًا، ورغم ذلك تفاجأ الأهالي بوجود فادي صقر منذ اللحظة الأولى بعد “التحرير” في أحد الفنادق الراقية وتحت حماية أمنية مشددة من قبل الحكومة الجديدة. بل حاول أحد القياديين البارزين في الجهاز الأمني بدمشق إدخال فادي صقر إلى حي التضامن ليكون أحد أعضاء “لجنة السلم الأهلي”، وهو ما قوبِل برفضٍ كبيرٍ ودفَعَ إلى خروج مظاهراتٍ تطالب بالقصاص من هذا المجرم.

لم تكتفِ الحكومة بذلك، بل منحت فادي صقر امتيازاتٍ لم يحصل عليها أبناء الثورة، وجعلته وسيلةً لإطلاق سراح مئات الضباط الذين أمعنوا في قتل السوريين. وهنا تحول فادي صقر من مجرمٍ غارقٍ في الدماء إلى “حمامة سلام” تُكرّس ما يُسمّى بالسلم الأهلي.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل بَرَز السيد حسن صوفان، أحد أعضاء لجنة السلم الأهلي في الساحل، خلال مؤتمرٍ ليتحدث عن منح فادي صقر “الأمان” من قبل الحكومة الجديدة، ما خلق حالة من الفوضى بين السوريين وطرح العديد من التساؤلات عن مصير العدالة الانتقالية وجدية الحكومة في تطبيقها.

 كما اعتُبر منح الأمان لمجرمٍ مثل فادي صقر صدمةً أخلاقيةً وقانونيةً واستفزازًا مباشراً لأهالي الضحايا. وهنا يجب التأكيد أن قضية فادي صقر واحدة من بين آلاف القضايا المماثلة التي يعاني منها الشعب السوري.

السلوك القضائي في سوريا بين التحديات والاستقلالية

لا يزال السلوك القضائي في سوريا، حتى اللحظة الراهنة، عاجزًا عن عكس إرادة قانونية مستقلة بشكل واضح. ويعود ذلك في جوهره إلى طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد، حيث ما يزال الجهاز القضائي قيد التشكل بعد مرحلة التحرير. 

هذا الواقع الاستثنائي أفرز تحديات مركبة، أهمها غياب رؤية مؤسساتية مكتملة تحدد بوضوح الأسس التي سينبني عليها القضاء في المستقبل.

إن استمرار حالة “التشكّل” هذه تعني أن البنية القضائية لم تستقر بعد على آليات وإجراءات عملية، سواء من حيث طرق التعيين والتدريب، أو من حيث بناء منظومة تشريعية قادرة على صون استقلال القاضي وضمان حياده. وهذا ينعكس بشكل مباشر على طبيعة القرارات القضائية، إذ تبقى معرضة لتأثير الظروف السياسية والاجتماعية، في غياب إطار راسخ يحمي القضاء من التوظيف أو التسييس.

ومع ذلك، فإن هذه المرحلة الانتقالية قد تُشكّل فرصة مهمة لإعادة التفكير في بناء سلطة قضائية حديثة تستجيب لمتطلبات العدالة. فالتجارب التاريخية لعدد من الدول التي مرت بظروف مشابهة تُظهر أن لحظة إعادة التأسيس يمكن أن تكون مدخلاً لإصلاح عميق يضع الأسس لاستقلال قضائي حقيقي، إذا ما توافرت الإرادة السياسية والدعم المجتمعي  وهو ما يؤدي إلى حرمان الأهالي من الوصول إلى حقوقهم. ومع أن الحكومة تدعو نظريًا الأهالي إلى رفع دعاوى رسمية ضد الجناة، إلا أن كل من حاول سلوك هذا الطريق واجه إحدى نتيجتين:

1. رفض الدعوى لأسباب إجرائية أو سياسية.

2. إبلاغهم بسقوط الجريمة بالتقادم.

وهذا يخالف بشكل صارخ اتفاقية عدم تقادم الجرائم ضد الإنسانية، ويُعدّ خيانةً لحقوق الضحايا وذويهم، وتطبيعًا لثقافة الإفلات من العقاب والاستهتار بدماء السوريين ومشاعر ذويهم.

وبينما يفلت من أمعنوا في قتل السوريين من العقاب ويتمتعون بامتيازاتٍ ومناصب عديدة، نرى في الجهة المقابلة تضييقًا كبيرًا على أبناء الثورة، المهجّرين داخليًا أو خارج البلاد، وذلك من خلال مذكراتٍ أمنيةٍ أصدرتها سلطات نظام بشار الأسد بحقهم عقب خروجهم في الثورة ضده، تتضمن تهمًا متعددة منها الإرهاب والمخدرات وغيرها من الاتهامات التي كانت تُلصق بالأهالي الثائرين والمعارضين. اللافت أن مذكرات التوقيف وقرارات منع السفر هذه لا تزال فاعلة ولم تُلغَ حتى اللحظة، فمئات الآلاف من السوريين يتحدثون عن تعثر استكمال معاملاتهم أو سفرهم بسبب هذه المذكرات، وهو ما يعد استهتارًا بحقوق السوريين، ووفقا لعدد كبير من النشطاء ومن الأهالي الذين تحدثوا بشفافية عن رفض دعاوى حاولوا تقديمها ضد بعض المجرمين والشبيحة او عدم قبول الدعوى واخبارهم بأنها سقطت بالتقادم.

من هنا، تبرز الحاجة إلى رسم خارطة طريق واضحة لإعادة بناء القضاء، تتضمن:

1. تعزيز الضمانات الدستورية والقانونية لاستقلال القضاء.

2. إرساء معايير شفافة للتعيين والمساءلة بعيداً عن أي تدخلات سياسية.

3. تطوير البنية المؤسسية والتدريب القضائي بما يواكب المعايير الدولية للعدالة.

4. إشراك المجتمع المدني والهيئات القانونية في صياغة مستقبل السلطة القضائية.

إن نجاح الجهاز القضائي في بلورة سلوك مستقل وفاعل لن يكون مجرد إنجاز قانوني فحسب، بل سيكون ركيزة أساسية في إعادة بناء الدولة وتعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات. فالعدالة المستقلة هي الضامن الأول للاستقرار السياسي والاجتماعي، وأي قصور في هذا المجال سيبقي التجربة القضائية عرضة للارتباك والتشكيك.

Janblat 6 730x438

ــ تداعيات تجاهل العدالة: بوابة للفوضى والانفلات

حين يفقد المواطن ثقته بالقضاء، وحين يَفلت القاتل من العقاب، تكون الدولة قد بدأت تدريجيًا بفقدان شرعيتها الأخلاقية والقانونية. في هذا السياق، من الطبيعي أن يفكر البعض في الانتقام الشخصي خارج سلطة الدولة، مما قد يؤدي إلى:

تصاعد حالات الاغتيال والثأر الفردي.

تفكك تدريجي لمؤسسات الدولة الرسمية، وخاصة الأمنية منها.

عودة الميليشيات المحلية كمصدر “بديل” لتحقيق العدالة.

انتشار حالة من الخوف وعدم الأمان تعيد المجتمع إلى ما قبل الدولة.

وهذا ما يحاول السوريون منعه حتى اللحظة؛ آملين أن تصحح الحكومة الجديدة سياستها وتتخذ خطوات جدية نحو تحقيق العدالة الانتقالية ومراعاة مشاعر مئات الآلاف من ذوي الضحايا، خصوصًا بعد بدء محاكمة أربعةٍ من كبار مسؤولي نظام الأسد، وسط مطالبات بأن يكون القانون فوق الجميع ومحاكمة كل من ارتكب جرمًا بحق أبناء شعبه.

ــ السلم الأهلي في مهب الريح

لا يمكن الحديث عن السلم الأهلي في غياب العدالة. فالسلم ليس مجرد غياب السلاح وتوقف الاشتباكات بين الجهات المتنازعة، بل هو شعور جماعي بالأمان والكرامة والثقة في مؤسسات الدولة. وإن بقاء المجرمين أحرارًا طلقاء، بينما يقبع الضحايا أو ذووهم في دوامة النسيان، سيجعل من السلم الأهلي قشرة هشة قابلة للانفجار في أي لحظة، ما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة لا تُحمد عقباها.

أمثلة تاريخية: دروس من تجارب الشعوب

لا بد من ذكر عددٍ من الأمثلة التاريخية التي تبرز أهمية العدالة الانتقالية. ففي جنوب إفريقيا تجاوزت البلاد جراح التمييز العنصري من خلال لجنة الحقيقة والمصالحة التي قامت على مبدأ الاعتراف مقابل الصفح. وفي رواندا، أنشئ نظام قضائي محلي (غاتشاكا) لمحاكمة المسؤولين عن الإبادة الجماعية، مما أعاد الثقة تدريجيًا. أما في تشيلي والأرجنتين، فقد واجهت الأنظمة السابقة موجات محاكمات استمرت لسنوات، حتى أُدينت قياداتها بعد عقود. ما يربط كل هذه التجارب هو الإيمان بأن العدالة ليست خيارًا سياسيًا بل ضرورة مجتمعية وأخلاقية يجب تطبيقها لتهيئة بيئة تُبنى عليها الدول من خلال استعادة ثقة شعوبها.

من المسؤول؟ وما الذي يجب فعله؟

يجب التوضيح أن المسؤولية لا تقع على النظام السابق وحده، بل تشمل أيضًا الجهات الدولية التي تواطأت بالصمت وتغاضت عن الجرائم المرتكبة بحق السوريين، إضافة إلى فشل المعارضة السورية في توثيق الانتهاكات بآليات قانونية دولية قابلة للمساءلة. ولا يجب إغفال دور منظمات الأمم المتحدة، التي قدّمت تقارير قوية من دون خطوات تنفيذية، ناهيك عن المجتمع المدني المحلي الذي تعرّض للتجريف والتهجير فتراجع دوره.

وهنا يجب التنويه إلى أنه من أجل تحقيق العدالة وضمان الاستقرار، لا بد من تنفيذ عددٍ من الخطوات الجوهرية:

1. إنشاء محاكمٍ خاصة مستقلة للجرائم الكبرى بإشراف دولي، وبمشاركةٍ سوريةٍ نزيهة.

2. تعديل القوانين السورية لمنع سقوط الجرائم ضد الإنسانية بالتقادم، وإلغاء الحصانات عن الجناة.

3. فتح ملفات الأرشيف الأمني لكشف الحقائق، وتحقيق المصالحة على أسس صحيحة.

4. حماية الشهود والضحايا وتوفير الدعم النفسي والقانوني لهم.

5. تمكين المجتمع المدني عبر دعم المنظمات الحقوقية المستقلة وتعزيز الإعلام الحر.

لا وجود للدولة دون عدالة

ختامًا: إن محاولة القفز فوق العدالة بذريعة الاستقرار أو المصالحة أو ما يسمى السلم الأهلي ستقود البلاد إلى دوامة جديدة من العنف واللاشرعية. فلا يمكن بناء دولة دون معالجة جراح الماضي، ولا يمكن الحديث عن السلم الأهلي الذي نسعى إلى تحقيقه جميعًا بينما الجناة أحرار والضحايا منسيون.

دماء السوريين وحقوقهم وكرامتهم ليست قابلة للمساومة أو للسقوط بالتقادم، ولا يجوز منح الأمان لمجرمين أو العفو عنهم دون أخذ رأي ومشورة أصحاب الدم وذوي الضحايا. إنها دين في عنق كل مسؤول وكل قاضٍ وكل سياسي وكل مواطن، إلى أن تتحقق العدالة التي تنصف الضحية وتعاقب الجلاد.

زر الذهاب إلى الأعلى