السودان بين الميليشيات و الدولة: خريطة الخطر و مسار الإنقاذ

بقلم Daniel Georges مواطن سوداني
السودان في قلب العاصفة: مدخل
يمر السودان بلحظة مفصلية في تاريخه الحديث، إذ لم يعد الانقسام بين مدني وعسكري، ولا بين غرب وشرق، بل أصبح وطنًا يحتضر بين فوضى وقانون، ودولة ومليشيا، وأمراء حرب يتناسلون.
في ظل هذا المشهد المأزوم، لم يعد الحديث عن “الدولة السودانية” ممكناً إلا بصيغة الماضي القريب، فالحاضر يسير بخطى متسارعة نحو صوملة كاملة أو لبننة طويلة الأمد.
الميليشيات السودانية: من السلاح إلى السلطة
رغم أن السودان ظل يعاني لعقود من الحركات المسلحة، إلا أن ظاهرة تفشي الميليشيات في النطاق العاصمة وبتداخل مع المؤسسة العسكرية، هو تطور بالغ الخطورة ينبئ بتحلل فكرة الدولة الحديثة نفسها.
ـ أبرز الفصائل والميليشيات والميليشياتي الفصائلي:
- قوات الدعم السريع (بقيادة حميدتي):
في حرب شاملة مع الجيش، لا خلفية أيديولوجية واضحة، لكنها تتحالف مع قوى مدنية إسلامية. - الحركات المسلحة (مناوي، جبريل إبراهيم، أركو):
ذات طابع دارفوري، متحالفة مع الجيش أو إسلاميين. - دروع الخرطوم وفيالق العاصمة:
ميليشيات ذات طابع إسلامي، تعمل بدون قيادة مركزية واضحة. - الميليشيات القبلية:
تحركها المصالح القبلية، منتشرة في الأطراف، وقد تنقلب على الدولة. خلفيتها الفكرية مشوشة.
ـ خلفية فكرية مشوشة للميليشيات:
الميليشيات لا تتبع خلفية واحدة، بل تنقسم إلى:
• إسلام سياسي مسلح
• سياسية قبلية مسلحة
• براغماتية مصلحية
ـ غياب المشروع الوطني الجامع: أبرز ملامح الأزمة
في ظل ما يشهده السودان من انفلات أمني غير مسبوق، وتنامي ظاهرة “الدروع” و”الفيالق” و”الحركات” المسلحة التي تعمل تحت مظلة القوات المسلحة أو تدّعي الانتساب إليها، يبدو المشهد وكأننا أمام مشهد كلاسيكي لانهيار الدول وفقدانها لسلطة القانون وهيبة المؤسسات.
وجود هذا العدد الكبير من الفصائل المسلحة، سواء كانت تتبع فعلياً للجيش أو تنشط باسمه، لا يمثل خطرًا أمنيًا فقط، بل هو تجسيد صريح لتفكك مفهوم الدولة نفسه، وانهيار احتكارها المنظم للعنف، وتفكك الوطن الواحد الذي يخضع الجميع فيه لحكم القانون.

ـ هل من طريق ثالث عبر الميليشيات لتفكيك الدولة؟
لا تكفي إدانة هذا الواقع وحدها، بل لا بد من طرح حلول تتناسب مع طبيعة الأزمة السودانية. وعليه، أقترح المعالم التالية لرؤية وطنية واقعية وعقلانية:
ـ أولاً: هيكلة القوات النظامية عبر هيئة وطنية مستقلة
• لا يمكن إعادة بناء الجيش الوطني دون المرور بعملية دمج شاملة ومدروسة للفصائل المسلحة.
• يتم الدمج وفق معايير مهنية صارمة، لا على أساس الانتماءات أو الولاءات.
• من لا يُدمج فورًا، يحتاج إلى إعادة تأهيل، أو يتم تسريحه بمسؤولية إنسانية عبر برامج إدماج مدني.
ـ ثانيًا: نزع السلاح التدريجي وليس القسري
• السودان بلد يعيش على إرث طويل من الصراعات المسلحة.
• نزع السلاح دون تقديم بدائل أمنية واجتماعية واقتصادية للمجتمعات والميليشيات ليس إلا وصفة جديدة للفوضى.
• يجب أن يرتبط نزع السلاح الطوعي بعملية سياسية حقيقية، ويشجع على التسريح الوطني الآمن.
ـ ثالثًا: ميثاق أمني انتقالي بضمانات دستورية
• ينبغي صياغة ميثاق أمني وطني، يكون جزءًا من الإعلان الدستوري الانتقالي.
• يتضمن تعهداً بعدم تشكيل أية قوة موازية للجيش وتجريم حمل السلاح خارج سلطة الدولة.
• يُناقش هذا الميثاق في مؤتمر وطني، ويُوقّع عليه، ويُنفذ تحت رقابة مجتمعية شاملة.

ـ رابعًا: الأمن المجتمعي كبديل عن الميليشيات
• لا يمكن ملء الفراغ الأمني بمزيد من الجيوش الصغيرة.
• المطلوب هو إنشاء شرطة محلية مجتمعية، تُدار مدنياً وتخضع للرقابة الولائية.
• تساهم هذه الشرطة في حفظ الأمن دون عسكرة المجتمع.
ـ خامسًا: استثمار القوة الناعمة في محاربة ثقافة السلاح
• إشراك الزعامات القبلية والدينية والمجتمع المدني في نشر خطاب يرفض عسكرة الفضاء العام.
• ربط ذلك ببرامج إعلامية وتربوية منظمة وطويلة الأمد، تُعلي من قيمة السلم والتعايش.
ـ سادسًا: الاستعانة الفنية بالمجتمع الدولي دون وصاية
• السودان بحاجة إلى دعم دولي لإنجاح برامج الدمج والتسريح.
• يجب أن يكون هذا الدعم فنياً وتقنياً خالصًا، وغير مشروط سياسياً.
• مع التأكيد على استقلال القرار السوداني.
ختاماً
لن يُبنى السودان من جديد في ظل هيمنة الميليشيات، ولا من خلال تقنين حمل السلاح باسم “الدروع” أو “الفيالق”.
بل من خلال مشروع وطني جاد، يعمل على تقديم حلول جذرية لكل المشاكل، ويضع أسس جيش قومي واحد، وشرطة مدنية مهنية، ومجتمع يحتكم للدستور لا للبندقية.
ولا سبيل لذلك دون توافق سياسي شامل، يعترف بواقع السلاح، لكن يصرّ على تفكيكه بوسائل سلمية، عادلة، وشفافة.
بقلم Daniel Georges مواطن سوداني